مشاهدة النسخة كاملة : عمر المختار.. فارس الحق


ناقل الأخبار
2016-03-21, 07:14 PM
“وعندما حضر أمام مكتبي تهيَّأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المُرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراويَّة. يداه مُكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أُصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطًا لأنه كان مُغطيًا رأسه بالَجَرِدْ ويجرّ نفسه بصعوبة نظرًا لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يُخيل لي أنَّ الذي يقف أمامي رجلٌ ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم أنَّه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقفٌ أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوتٍ هادئ وواضح”.

هكذا وصفه قائد قوات الاحتلال الإيطالي في ليبيا وأفريقيا أثناء الحرب العالمية الثانية، رودولفو غراتسياني، الذي وصل في 14 سبتمبر 1931 *إلى بنغازي تمهيدًا لحضور المحاكمة الشهيرة ضد واحد ممن أذاقوا الاستعمار الإيطالي في ليبيا ضراوة المقاومة ووقوفها أمام طموحات المستعمر، في اليوم التالي 15 سبتمبر، قبيل المحاكمة بساعات، طلب غرزياني الاجتماع بالشيخ المناضل الأسير في مكتبه، فدخل عليه بعد أن أتم وضوءه وصلى ركعتي الضحى، ورغم القيود والسلاسل المُكبل بها دخل بهيبة ملك وفارس في هدوء وطمأنينة المنتصر ارتعدت لها فرائس العدو المحتل المغتصب، إنه شيخ المجاهدين وأسد الصحراء.. فارس الحق.. الشيخ الشهيد المناضل عمر المختار ودار بينهما حوار مطول.

غراتسياني: لماذا حاربتنا بشدَّة متواصلة؟

المختار: من أجل ديني ووطني.

غراتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

المختار: لا شيء إلَّا طردكم … لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرضٌ علينا وما النصر إلا من عند الله.

ويستطرد غراتسياني في حديثه: “عندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء كأنَّ هالة من نور تُحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض المعارك والحروب العالميَّة، والصحراويَّة، ولُقبت بأسد الصحراء، ورُغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرفٍ واحد، فانتهت المُقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه للمُحاكمة في المساء، وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمُصافحتي ولكنَّه لم يتمكن لأن يديه كانت مُكبلة بالحديد. لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير”.

ولد عمر بن مختار بن عمر المنفي الهلالي، الشهير بعمر المختار، في البطنان ببرقة في الجبل الأخضر 20 أغسطس 1858 وكفله أبوه وعني بتربيته تربيةً إسلاميَّة حميدة مستمدة من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة المطهرة. ولم يُعايش عمر المختار والده طويلًا، إذ حدث أن توفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكَّة لأداء فريضة الحج، فعهد بتربية نجليه إلى رفيقه أحمد الغرياني فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي الذي كان منارة للعلم وملتقى للعلماء والفقهاء لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى، فحصد اليتيم اليافع انتباه شيوخه في صباه لما بدا عليه من ذكاء واضح.

وجد عمر المختار نفسه قد تحول من معلم للقرآن الكريم *إلى مجاهد يقاتل لدفع الاحتلال، واكتسب المختار خبرة كبيرة في تكتيكات الحروب الصحراوية، أثناء قتاله الفرنسيين، وكان له معرفة سابقة بجغرافيا الصحراء، فاستغل هذه المعرفة، ليحصل دائما على الأفضلية في مواجهة الجنود الإيطاليين، غير العارفين بحروب الصحراء، وحارب قوات الغزو الإيطالية منذ دخولها أراضى ليبيا، وهو يبلغ من العمر 53 عاما.

وفي عام 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، وبدأ نزول قواتها بمدينة بنغازى الساحلية، وكان عمر المختار في ذلك الوقت، في مدينة الكفرة في قلب الصحراء، وعلم بنزول الإيطاليين، وعاد إلى زاوية القصر لتجنيد الأهالي لمقاومة الجيش الإيطالي، ونجح في جمع 10 آلاف مقاتل معه، كما جمع مقاتلين من مدن أخرى.

أجرى المختار حملات ضد الكتائب العسكرية الإيطالية، ليوجه لهم ضربات موجعة ثم ينسحب بسرعة إلى قلب الصحراء، وقطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالي، حتى أصيب قادة العدو بالذهول، وأحرج الجيش الإيطالي أكثر من مرة، نظرا لعجزه عن صد حركة الثوار البدو غير المدربين عسكريا، وكان المختار يتنقل أثناء غارته بين مناطق القتال، وكان يتواصل مع القبائل، من أجل توحيد الصفوف، وسد الثغرات أمام العدو.

وفي أكتوبر 1930 تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على نظّارة عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلًا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار ما زال على قيد الحياة، وأصدر غراتسياني منشورًا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على أسطورة المختار الذي لايقهر أبدًا وقال متوعدًا «لقد أخذنا اليوم نظارة المختار وغدًا نأتي برأسه» وفى سبتمبر 1931 توجه المختار لزيارة ضريح الصحابي رويفع بن ثابت بمدينة البيضاء، وكان قد شاهدته ومن معه وحدة استطلاع إيطالية، فاشتبكت معهم وأثناء الاشتباك، جرح حصان عمر المختار، وألقى جنود الاحتلال الإيطالي القبض على الثائر الشيخ المجاهد.

وفى يوم 16 سبتمبر 1931، اتخذت كل التدابير لتنفيذ حكم الإعدام بإحضار أقسام الجيش الإيطالي، والطيران وأحضر 20 ألفا من الأهالي لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم، وأحضر المختار مكبل اليدين، وفى الساعة التاسعة صباحا سلم للجلاد، وبمجرد وصوله لساحة تنفيذ الحكم حلقت الطائرات الإيطالية فوق المشنقة، وصار المختار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وقال أحد المقربين إنه كان يؤذن.. وتم تنفيذ الحكم عليه في مشهد مهيب وفاضت روحه الطاهرة لبارئها.

Adsense Management by Losha