مشاهدة النسخة كاملة : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ?}


ناقل الأخبار
2018-06-06, 01:06 AM
مع دخول أيام المغفرة في الثلث الثاني من شهر رمضان المبارك، نتجول في رحاب قوله تعالي في محكم التنزيل: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ? وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} ?غافر 44?، من أجل سبر أغوار لطيف المعاني، وتلمس جميل الحكم الإلهي من أجل تحقيق القيام والإنفاق وكلاهما يأتي مرادفا للصيام في شهر النفحات.
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، كقولهم: سها فسجد ، أي : سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه ، وليس لموسى عليه السلام فيه دخل، وقوله : فستذكرون ما أقول لكم ، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم ، ويذكرون نصيحته ، فيندمون حيث لا ينفع الندم ، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا – كثيرة ، كقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون وقوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين . وقوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون وقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون وقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد إلى غير ذلك من الآيات.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون التوكل على الله سببا للحفظ، والوقاية من السوء ، جاء مبينا في آيات أخر، كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه . وقوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء.
والظاهر أن ما في قوله: سيئات ما مكروا، أي: فوقاه الله سيئات مكرهم، أي: أضرار مكرهم وشدائده، والمكر الكيد.
والثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله، وهي قمة التفويض إلى الله، قال مؤمن آل فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 14 ، وهي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك، وهي التسليم المطلق للملك جل وعلا، والاستسلام له، قال المؤمنون الواثقون بربهم وبتأييده وعونه في غزوة الأحزاب لما لقُوا عدوهم كما حكى عنهم القرآن: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا 15 .
قال أحد الصالحين: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء).
ولقد تكلم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن أناس وصل عندهم ما أخبر الله عنه الحد اليقيني الذي لا ريب فيه ولا اضطراب معه، والذي يبلغ حد الاعتقاد بأنه لا يمكن أن يكون إلا كما ورد مطابقا للواقع، فقال عنهم: الم، ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون 16 ، فخصهم بالهدى والفلاح من بين العالمين، لأن من صفاتهم التصديق بما يأتي من خبر الغيب، ولا إيمان يرجى ممن لا يؤمن بالغيب.
عن الحارث بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل حارثة: “(كيف أصبحت يا حارثة؟) قال: “أصبحت مؤمنا حقا”! قال صلى الله عليه وسلم: ((انظر إلى ما تقول! فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟) قال: “عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها ومدرها، وسهرتُ ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أرى عرش ربي بارزا، وكأني أرى أهل الجنة وهم يتزاورون فيها، وأهل النار وهم يتضاغَون فيها”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عبد نوَّر الله قلبه! عرفت يا حارثة فالزم).
فالمؤمن الذي في قلبه ذرة من إيمان خالص حي، ومُسكة من يقين، يصدِّق ويثق ويسلم بما أخبر عنه الله ورسوله من أمور الغيب مما يشمل الدنيا والآخرة، ولا يشك، بل يتوق إلى غد الكرامة والعدل، ويستبشر ببُشرى الأمل والرجاء بعد آهات القنوط والألم، ولا يأبه بأباطيل الشاكِّين من أدعياء العلم، وأراجيف العقلانيين، ويظن خيرا في مولاه في الدنيا والآخرة.
والواثق بالله القوي الإيمان يحصل له من الأنس بربه ما لا يحصل لغيره، وإذا ادلهمت الأيام وزادت عليه الخطوب والمشاكل لا تراه دائمًا إلا هادئ البال، ساكن النفس، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، لسان حاله يقول: لن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا، وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
فقد دلت هذه الآية الكريمة ، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه، أي حفظه ونجاه ، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله ، وتفويضه أمره إليه، وبعض العلماء يقول : نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول: صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم، وكل هذا لا دليل عليه، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم، أي حفظه ونجاه منها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه : أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم ، ورد العاقبة السيئة عليهم ، فرد سوء مكرهم إليهم ، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة ، وكان فرعون وقومه هالكين في الدنيا والآخرة والبرزخ، فقال في هلاكهم في الدنيا : وأغرقنا آل فرعون ، وأمثالها من الآيات، وقال في مصيرهم في البرزخ : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، وقال في عذابهم في الآخرة : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.



المحتوى من صحيفة ماب

Adsense Management by Losha