مشاهدة النسخة كاملة : سلطانٌ بغير سلطانٍ!!


ناقل الأخبار
2016-12-11, 12:26 PM
هكذا هي العادات والتقاليد إذا استولت على سلطة القيم والعقول والمجتمعات بحق وبغير حق..

فيصبح الظلم حَكماً، والظلوم مطاعاً، والمظلوم عدواً، ويصبح الحق ذوقاً وشهوة، والمحق شاذاً !!

يعلم المختصون في الشريعة؛ أن ثالث مقاصد الشرع الحنيف: (هو الجري على محاسن الأخلاق والعادات) لا ريب ولا شك..

ولكن إن ما أقصده بمقالي هنا، هو سلطان العادات والتقاليد المذمومة البغيضة المخالفة للحق والفطرة، ولو تزينت بالشيمة والمراجل الكاذبة، حيث يعارض بها النص والمنطق، و الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو ما يتسيد مشهد مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم- للأسف الشديد- إلا من رحم ربك..

تأمل معي قارئي الكريم هذه المعادلة أولاً؛ والتي أزعم أن دقتها تفوق دقة بعض المعادلات الكيميائية، وهي:

[أنه بقدر تفريط الإنسان في مطالبه الروحية والجسدية و الفطرية، تحت أي مبرر من المبررات، بقدر ما ينعكس هذا على سلوكه تشويها و مسخاً و وحشية و ألماً، في الزمان والمكان، و ردات الفعل وجودا وعدماً]..

فإن لم تكن تلك الآثار مباشرة المردود في بعض الأحايين، لاعتبارات مؤقتة حابسة لها، و ظروف اجتماعية زمكانية حاكمة ومقيدة عن ظهورها، إلا أنها كاسرة وجارحة و مدمرة إذا ظهرت..

قال صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسرٌ، ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا) متفق عليه.

هكذا جاء النص والقاعدة النبوية، محذراً من الغلو بكل صوره وأشكاله، في الدين أو السلوك أو العادات أو المشاعر، وأنك لن تكون قادراً على الإستقامة الصادقة المتزنة ببهارج القوانين المصطنعة المكذوبة، التي لم يأمرك الله بها على وجه التحقيق، إلا بعد أن تسقط صلاحيتك الشخصية، وقيمتك الآدمية والإنسانية، لتعلن بعدها فشلك عن العيش بشكل طبيعي، وأن تتصالح مع نفسك، فضلا من أن تتصالح مع غيرك، كما أراد الله منك، ولن تكون تلك البواقع بالطبع بطرق مباشرة وظاهرة و معلنة في الغالب!!

إن سلطان العادات والتقاليد الفاسدة، ضرب من ضروب التشدد الأخلاقي السلوكي المقيت، الذي نهي عنه في الأحاديث الصحيحة، سلوك يحمل في جعبته الكثير من التعديات على القيم الإنسانية والدينية، وتشويه الخصال الفطرية لدى الإنسان، وتنفير الخلق عن الحق، وهو ما تأباه الشرائع والأديان السماوية قاطبة..

فإن كان التشدد الديني، يحمل غطاء شرعياً من أدلة الكتاب والسنة، قد يكون لصاحبه عذرا يوم القيامة عند ربه، لغلبة الجهل عليه في فهم النص، أو كونه ضحية من ضحايا مجتمع ما يعيش فيه..

إلا أن سلطان العادات والتقاليد، أشد على بعض الناس من التشدد الديني والغُلو نفسه، فهي لا تخضع لأي نص مقدس أصلاً، غير ما قاله وفعله الآباء والأجداد والأشياخ، فما لا يقبل ولا يحل ولا يجوز شرعاً، قد يقبل ويحل ويجوز عرفاً و موروثاً، والعكس صحيح، فكيف يكون العذر يوم القيامة ؟!

منع المرأة حقها في الميراث، باعتبارها درجة ثانية في الحقوق والواجبات و التعامل، و العنصرية والتمييز بين فئات المجتمع المختلفة بين حاضر وباد، و خلط الشعائر الدينية بالطقوس الاجتماعية، وإن خالفت الشرع نفسه، بعد إلباسها لبوس الدين والوقار طبعاً، ليسهل تمريرها على البسطاء والأتباع، هو نوع من سلطان العادات والتقاليد على أفراد المجتمع المسلم..

*وعلى مستوى التدين، ترى سلطان العادات والتقاليد يغزو مركوبات الناس و أزياءهم، بحسب درجة تدينهم و رتبتهم الدينية، إلى حد الإسفاف والسخرية، فركوب الرخيص من المركوبات الحديثة مثلاً، هو الأليق بالمتدين، إذ أن فيها اللائق وغير لائق به، ولو كان الأمر في حدود المقبول مجتمعيا بصفة عامة، إلا أن الحكم النهائي، وكلمة الفصل، إنما هي لسلطان العادات والتقاليد الدينية..!

وقل مثل هذا في اللباس سواء بسواء، فوضع العقال مثلا من عدمه، هو دليل على مستوى تدينك وسعة علمك و فضيلتك ولابد، ولكن بدون تصريح بذلك طبعا، فالمعنى في بطن الشاعر!

وتحرم تلك العادات والتقاليد الفاسدة على المتدين بعض السلوكيات المباحة، كممارسة الرياضة في الأماكن العامة، والأندية الرياضية؛ طلبا للوقار الكاذب، والمروءة المتعوب عليها، ولو كان على حساب صحته وحياته، وإذا فعل ما ينبغي، فعله على استحياء بعد محاولة فك القيد أو كسره؛ وكان متخفياً، حيث المكان الذي لا يراه فيه ولا يعرفه أحد، منكسا رأسه خوفاً من النقد في أي لحظة، ومن فقدان المروءة المهومة التي تعب على جمعها في الزمن الجميل، وتعب في تكوينها من خلال الأدوار التي مارسها السنين الطويلة، فيارب سترك وعفوك ورضاك والجنة..

ثم لا يلبث في الغالب أن يضمحل من المشهد تماماً بعد قليل، ويتلاشى تاركاً حظه و منفعته ومصلحته في ممارسة الرياضة، ليكون مصيره الاستسلام للفضائل المصطنعة من جديد، وركوب الموجة المسيطرة عليه، والثبات المنكوس على الدين -زعم- مرة أخرى، فتكون المحصلة هي الأجساد الهزيلة، والأرواح المريضة، مرددا جاهلا للمعنى؛ اللهم إن العيش عيش الآخرة !!

بل الأسوأ من ذلك كله تناقض كثير من المتدينين مع أنفسهم أصلاً في بعض قيمهم الاجتماعية، والأكثر حساسية منها، لاسيما إذا تعلق الموضوع بالغيرة على النساء والأعراض..

فيكون الشيئ حراماً في أمر، و يكون مشروعاً حلالاً في مثله، في تناقض سافر غير مقبول، فتراه يستر زوجته، ويكشف خادمته، وهو يؤصل للغيرة ويصدع بها في كل شعب ومكان، ولا يسمح بمرور أحد من الرجال في غرفة أو صالة منزله؛ حيث تتواجد بها إحدى محارمه، ولو كانت ترتدي من الحجاب ما يخفي مكانها فضلا عن سترها، ولكنه لا مانع لديه من مرور الخادمة ذاتها من ذات المكان، وربما مباشرة الأضياف، بل وخروجها إلى الشارع متكشّفة لرمي الزبالة في صندوق النفايات، في تناقض سافر، ينبيك عن سلطان العادات والتقاليد الرخيصة، لا سلطان ما يراه هو دينا على أقل تقدير، والقول بالقول يذكر!!

*وتراه يبحث عن المرأة السافرة المتكشفة -مسلمة كانت أو غير مسلمة- للزواج منها سراً* وخفية؛ في الداخل أو الخارج، مسيارا أو مسفارا أو بنية الطلاق -كما هو عليه قول الجمهور طبعاً-، وهو في نفس الوقت يتباكى على الأعراض الضائعة، ويشارك في مهرجانات حجاب المرأة المسلمة، والتي تبحث عن حل فيمن سيحمل نعشها بعد موتها من الرجال، و مشكلة ظهور شكل جسدها من فوق النعش من تحت ستوره يا ليت شعري!!

فمن فرق بين الخادمة وزوجته في منظومة القيم الواحدة؟

ومن أحل الزواج من السافرة، وحرمه على أم أولاده؟!

أليست الخادمة وغير الخادمة مخاطبة بما خوطبت به كل النساء المسلمات في أمر الحجاب والستر، فلما التناقض؟!

وإن كان -جدلاً- يرى بغطاء الوجه في حجاب المرأة المسلمة، وغطى وجه زوجته وبناته، فلماذا لا يغطي وجه خادمته وذراعيها، كما فعل مع سائر محارمه؟!

ليأتيك الجواب خريتاً يعرف طريقه على سؤالك؛ هي سلطان العادات والتقاليد، المهيمنة على تلك العقول التائهة، التي فقدت تمييزها، وضلت طريقها، من خلال خطابها الديني الضعيف، الذي لم ينضج كما ينبغي حتى الساعة!!

وهكذا زهد كثير من الخلق عن نداءات الفطرة، بقدر ما ساستهم عاداتهم وتقاليدهم الفاسدة، قوة وضعفاً، قرباً وبعداً كل بحسبه..

ومن ذلك إهماله الاهتمام بمشاعره وجسده وتفاصيله، والارتقاء بها، فتزهده العادات والتقاليد في الجمال والموهبة بطرق خفية، وتحرمه من تدليل نفسه بما أباحه الله له، والتفنن في استحلاب واستجلاب أحكام التحريم تكلفا من رحم الشريعة، فإذا رأى النعمة والجمال والثراء، شعر بالخجل الشديد، لأنها تنافي وقاره وزهده وكماله، وتدعوه إلى تعلقه بالدنيا زعم، في مسخ واضح للفطرة الإنسانية، التي شوهها التدين المعجون بالعادات والتقاليد الدينية الفاسدة..

إلى درجة حب العزلة عن مجتمعه المسلم الذي يعيش فيه كفضيلة يسعى إليها كلما سنحت له الفرصة، بدعوى تزاحم الأشغال، وعدم وجود الوقت للخلطة، والتأفف والقلق من كل ما هو جديد وجميل، لأنها بحسب ما يعتقده، تسحب من رصيده الأخروي، وتشغله عن مقصوده الأعظم، فهي تمثل فتنة عليه، وهي بدورها ستنجس تلك الروح الطاهرة، المغسولة بماء العادات التقاليد المقدسة، والحق أيها المحب؛ أنه ليس لله في ذلك لا قليل ولا كثير!!

فها هو يمارس ميوله حراماً متخفياً متؤولاً، مبرراً لنفسه متذرعاً بالفتاوى الشاذة، وأنه مستثنى بعد التأمل والنظر من الحرام في المسألة، حيث حرمها على غيره قريباً، فعمقه الفقهي اقتضى والحمد لله أولاً وآخراً !!

نعم فهذا المسلك أهون عليه بمراحل؛ من كسر سلطان عاداته وتقاليده التي حرمة عليه الشيئ حلالاً، فوقع فيه متخفياً حراماً، ولن يذهب بدوره إلى الحرام، إلا من خلال العبث الفقهي، وتتبع الرخص، أو دعوى عدم العصمة، ليشابه في ذلك بني إسرائيل في الكتاب، وهم أمة التحايل؛ وصدق الله إذ يقول: ?قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذينَ آمَنوا فِي الحَياةِ الدُّنيا خالِصَةً يَومَ القِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلَمونَ? [الأعراف: ??]، ?فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذينَ هادوا حَرَّمنا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبيلِ اللَّهِ كَثيرًا? [النساء: ???]

*فكل من تلبس بشيئ من تلك الغرائز الإنسانية المباحة في نظره، فقد خلع لباس الحياء عن وجهه، وسقط فيما يخرق مروءته ومجده -من منظور عاداته وتقاليده الفاسدة-، وَيَا ليت شعري، فلا بمبدأه تمسك، ولا على دينه ثبت، ولا على الفطرة حافظ ونبت..

ولن أنسى كذلك تلك العبارة التربوية الخنفشارية في ميادين البطولة والإباء، التي نشأ عليها الصغير، وشاب عليها الكبير، في طريقة التعاطي مع الخصوم الأوغاد، والحسم معهم، في تلك المجتمعات التي تخنع لسلطان العادات والتقاليد الظالمة: (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)، والتي قد تُمارس كذلك تديناً، وصلة للرحم في مرحلة من المراحل..

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ. رواه البخاري..

وهكذا لم يسلم من تلك العادات والتقاليد التيار الديني نفسه، الذي طالما عولنا عليه فتوحات الإصلاح والتغيير، فإذا هو ضحية، وجزء من المنظومة الاجتماعية الثقافية التي تخضع لسلطان العادات والتقاليد، وصورة من صورها، بعد أن عجن بمبرراتها سواء بسواء..

فترى المتدين في ذلك المجتمع، تحكمه العادات والتقاليد بسلطانها دون أن يشعر هو بذلك في أحايين كثيرة، أكثر من سلطان الدين عليه، والذي يدعو ليلا ونهاراً إليه!!

فتراه -إن كان مؤهلا- يضرب بعطن بُطُون الكتب الدينية، لاستجرار النصوص المقدسة من الكتاب والسنة، ليبرر تلك العادات والموروثات البالية لبني قومه، تحت طائلة المقاصد الشرعية الموهومة، أو الحفاظ على صلة الرحم المزعومة، ومراعاة النسيج الاجتماعي الذي نشأ فيه، أو دعوى الترفق بقريش وأبي جهل، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده بحق، ولا يقدم على دينه قول أحد من الخلق، والله من وراء القصد!!

حتى إنك لتجزم بإقليمية الإسلام العظيم في تلك البيئات والمجتمعات، ومحدوديته بين تلك الزوايا الضيقة في تلك الكيانات، تحت سلطان عاداتها وتقاليدها..

فلا مكان لعالميته وسعته التي أرادها الله له بينهم، وقد أنزله سبحانه مشتملاً على كل مقومات النجاح والسعادة بحق لو كانوا يعلمون..

ففي كل قطر ومصر؛ يصبغ الإسلام بصبغة المكان الذي يكون فيه، وجنسية البلد الذي يقطنه، حتى تغيرت شعائره، وفق منظومة ثقافة تلك المجتمعات، وكل يدعي أنه أولى بالله من غيره، وأفهم للنص من سواه، وما هي إلا عادات و تقاليد ما ترى عيناك..

*وسافر بقلبك بين الورى، لتبصر حقاً ما قد حصل..

و أبحر بعدها إن شئت؛ في لجج التبديع والتفسيق والتكفير بين أهل الإسلام أنفسهم، وعدم استساغتهم لنكهاته بين مجتمع و آخر، فإسلام المرتفعات والنجود، يختلف عن إسلام السهول والوديان ولابد، وكل يدعي وصلا بليلى..

فإن سألت: عن أي قوة ونفوذ وقدرة على التأثير تتحدث؟

أجبتك: إنه سلطان بغير سلطان!!

سلطان العادات والتقاليد المنغلقة المتسلطة، البعيدة عن سلطان الدين الواسع المتفتح !!



من صحيفة انحاء

Adsense Management by Losha