مشاهدة النسخة كاملة : هرمون السعادة.. الوهم الخالد


ناقل الأخبار
2016-05-07, 02:00 PM
عندما أقرأ للدكتور أحمد العرفج يشدني في كتاباته طريقة الطرح التي* يتفرد بها. فمواضيعه تتميز بأسلوب التشويق والموضوعية العالية التي تُحفز على فتح باب النقاش والحوار البناء. ففي مقاله الأسبوعي الذي تحدث* فيه عن الطريق إلى السعادة؛ وهو بعنوان: (دررٌ منتقاة للاستمتاع بالحياة)، لفت انتباهي ما ذكره الدكتور عن عالم النفس الدكتور “ديكس” حين يوضح كيفية الوصول إلى السعادة. ومن حيث الشكل والمضمون، أجدني أتفق معه تماماً في جميع النقاط التي أوردها.

فمن ملاحظاتي العلمية، إضافة إلى تجربتي الشخصية في مجال العلاج النفسي، عملت لفترة طويلة على التحقق من مفهوم هلامي سائد يبحث عنه الناس في حياتهم اليومية، ألا وهو مفهوم السعادة. وخلاصة ما وصلت إليه هو أن السعادة أمر غيبي ليس له وجود دنيوي، ولا يوجد إلا في مكان كوني واحد هو: الجنة. لأن من سمات السعادة أنها )دائمة ثابتة غير متغيرة(، وهذا وصف لا ينطبق على (سلوك) ولكنه ينطبق على (حالة)، وهذه الحالة لا تتوفر إلا في الجنة مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ? عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود، 108)، إضافة إلى الآية: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود، 105). ولم تذكر السعادة في القرآن إلا في هذين الموضعين؛ في مضمون واحد، وسياق واحد، ومكان واحد هو الجنة؛. مما يعني أن السعادة لها حقيقة ثابتة وهي أنها نعيم الخلود للمؤمنين في الجنة فقط ولا يمكن تحقيقها في الدنيا. ولكن ما يمكن تحقيقه دنيويا هو الشعور بالرضى؛ وهو أقرب إلى واقع الحياة. فالرضى المتعلق بالعباد هو (سلوك مكتسب نسبي ومتغير)، وقد ذُكر في القرآن الكريم في مواقع كثيرة وفي حالات مختلفة معظمها تتعلق بأمور الدنيا؛ مثل سرور القلب بمُر القضاء، وارتفاع الجزع في حكم الله، وعدم تمني المرء خلاف حاله –وهذه هي المفاهيم المقصودة في هذه المقالة- كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ) (التوبة، 59).

ولكن، ما أهمية شرح هذا المفهوم؟ وما تأثير ذلك على حياتنا؟

الإجابة تتمحور حول مفهوم مهم للغاية، وهو الإدراك والإيمان بأن كل أمر في هذه الدنيا قابل للزوال أو التغير، وأن لا شئ ثابت. بالتالي، فإن سلوك الرضى يجعلنا نعيش الواقع الدنيوي المتغير ونتقبل فكرة التغيُّر. فالمتغيرات كثيرة وسريعة ومستمرة في واقع حياتنا، وأحيانا تكون مفاجئة، وقد يُحبطنا الواقع بتلك المتغيرات إن كانت السعادة الدنيوية هي هدفنا. فالسعادة* حسب المفهوم القرآني حالة ثابتة خالدة لا تتغير، وهذا لا يمكن تحقيقه في الدنيا. أما مفهوم الرضى، فهو قدرة الفرد على التواصل مع الذات التي نفخ الله فيها من روحه، والتجرد من الجسد المادي بكل شوائبه حتى تسمو النفس لدرجة الخشوع لله عز وجل وتصل إلى الشعور بالعدالة الإلهية، فترضى بالواقع وما يحتويه من آلام وأحزان أو وعد ووعيد وأفراح وأتراح* متغيرة لا تدوم؛ وهو المفهوم الذي يؤدي إلى تمام التوكل على الله.

إن ما يُفرح الناس في الدنيا أمر ليس له علاقة بمفهوم السعادة. فمفهوم* السعادة يختلف عن مفهوم الفرح. الشعور بالسعادة هو حالة دائمة، كما ذكرت، أما الفرح الدنيوي فهو شعور مؤقت ومتغير يتعلق بالممتلكات المادية والأحداث اليومية والظروف المحيطة بنا.

كما لا بد من الإشارة إلى أن نقيض السعادة هو التعاسة. ولو تمعنا في هذين المفهومين، نجد أنهما ليسا حقيقتان دنيويتان. فسعادة ثابتة لا تتغير أو تعاسة ثابتة لا تتغير، أمران لا يمتان إلى الواقع الدنيوي بصلة، فكلاهما يصفان الآخرة؛ الأول هو حالة أهل الجنة والثاني حالة أهل النار. فهما حالتان تتصفان بالديمومة، وهذه ليست من متلازمات الحياة الدنيا. أما الفرح وعكسه الحزن والرضى وعكسه السّخط.. فتلك هي المصطلحات التي تنطبق على وصف سلوكيات مكتسبة ومتغيرة تلائم أهل الدنيا.

لأختم قولي، علّي أتجرأ وأقول: لا يوجد هرمون للسعادة وإنما يوجد هرمون للشعور بالرضى وهو ما يطلق عليه هرمون (الأندورفين)، يفرزه الجسم في وضعية معينة فيسبب راحة ذهنية وهدوء نسبي يساعد الفرد على عقلنة الواقع وتقبله، ومن ثم القدرة على التفاعل مع ذلك الواقع بشكل إيجابي. وهذا هو المفهوم أو التعبير الذي أخترته لعلاج من يلهث واهما وراء السعادة فينفصل عن واقعه ويقع في اضطرابات نفسية أو توترات عصبية، ولا يمكن مساعدته إلا بجعله يتواصل مع واقعه المتغير عبر (الرضا) حين يملء نفسه فينعكس على عقله وجسده.



من صحيفة انحاء

Adsense Management by Losha